قراءة للكتاب: “من داخل الشباب” التاريخ السري لأقوى حليف للقاعدة .

inside

محمد حرسي :

مقدمة :

يتعرض هذا الكتاب الصادر مؤخرا للصحفيين الصومالي هارون معروف و دان جوزيف لتاريخ نشوء حركة الشباب المجاهدين الصومالية كواحدة من أكثر الحركات رادكالية و عنفا في التاريخ الحديث والشخصيات المؤسسة لها داخل الطيف الواسع من الاسلاميين الصوماليين و ذلك من خلال اجراء حوار مع اعضاء منشقين من الحركة و شخصيات مقربة من رموزها و أرشيف الخارجية الأمريكية و كذلك ضحايا الحركة من سكان المناطق التى سيطرت عليها لسنوات عجاف و ضحايا التجنيد و الأدلجة و بذلك يمكن اعتباره أهم عمل صدر في هذا المضمار.

بعد المقدمة يفتح الكتاب قصة التطرف بشاب في مقتبل عمره اسمه طلحة علي كان يطمح بدراسة الشريعة الاسلامية في الخارج و يستشرف مستقبله كعالم دين, كان متسامحا و معتدلا لعلاقته بجماعة التبليغ المسالمة لكن الظروف الامنية في العاصمة الصومالية لم تكن متسامحة و كان أباطرة الحرب الذين أذاقوا سكانها ويلات الحرب قد شمروا للتوّ عن ساعدهم لاصطياد الاسلاميين بدعم و تعاون مع وكالة الاستخبارت المركزية “سي اي ايه” بغرض اعتقال أو اغتيال عناصر جهادية كانت تختبئ في مقديشو، و بتعميم زعماء الحرب استهدافهم على جميع التيار الاسلامي التهبت العاصمة في حرب ضروسة بين طرفين تدعم أحدهم الـ سي أي أيه و الطرف الأخر استند الى الشعب بداعي الدين و الثورة على رعاة الاضطرابات.

طلحة على، الشباب البريئ و الطموح الذي يكره امراء الحرب مثل باقي سكان العاصمة ينضم فجأة و من دون سابق تخطيط لمقاتلي المحاكم الاسلامية لينتهي به المطاف إلى أخطر خلية في حركة الشباب التي كانت ضمن تحالف المحاكم الاسلامية و كانت الجناج المعني للحرب الأمريكية لإيواء رموزها جهاديين مطلوبين للولايات المتحدة!

انتهى طلحة إلى خلية الاغتيالات و التفجيرات و بعدى مضي سنوات في المهمات القذرة، المقدسة عند الجهاديين، يوكل إليه عملية اغتيال رجل لوحظ تردده على مقر رئاسة الصومال, و في أثناء المحاولة يصلي طلحة إلى جانب “المرتد” الهدف ثم يخرج خلفه بعد الصلاة و مخالفة للأوامر يوقفه و يسأله عن سبب تردده على قصر “المرتدين” فيرد الرجل بأن القصر يضم مركز احتجاز يقبع فيه مقاتلون من حركة الشباب – زملاء طلحة – من بينهم ابنه فيزوه فيه و يقدم له الطعام و لهذا يتردد عليه!

ما كان طلحة ليتأني و يتأكد في البدء لو لم يخطر في باله سؤال بديهي: ” كيف لمرتد أن يصلّي ؟”! و حين تبين أن الرجل والد لأحد زملاءه “المجاهدين” بوصفهم و مساعد له في معتقله أطلق سراحه و أبلغ بالأمرآمره الذي خلافا لتوقع طلحة لم يعبأ بالخطأ الفادح الذي كاد أن يقع! كم يا ترى من الأبرياء راحو ضحايا للاغتيالات العمياء و على أيدى خلية الأمنيات التابعة للحركة و المعروفة عند الصوماليين بـ كاسري الرؤوس ؟! استفاق وعي طلحة فانشق إلى حكومة شريف و لاذ بوزير الداخلية حينها، الإسلامي المعتدل، عبدالقادر علي عمر الذي استغل بدوره تدريب و حرفية طلحة العالية فاتخذه حارسا شخصيا لكن طلحة الذي تعرف على ثنايا القصر الرئاسي و مكاتب الوزاء عاش ما يشبه أزمة نفسية يرويها أصحابه فلم يعد يباشر مهامه باستمرار و يكثر الغياب عن المجمع الرئاسي و لعله كان يتواصل مع رفاقه السابقين! و في احدى الأيام عاد إلى المجمع في لحظة تراخي أمني و بوسط فيلا صوماليا فجّر نفسه بحزام ناسف في عملية كانت تستهدف لأحد أهم الشخصيات في الحكومة ربما الرئيس أو رئيس الحكومة و ربما وزير الداخلية الذي كان طلحة حرسه الشخصي لكن العملية لم تسفر إلا عن رحيل طلحة وحده منتحرا غير مأسوف ساعتها و ربما شهيدا بنظره أو عبثا في عدمية ما بعد الصدمات!

قصة مؤلمة توضح كيف أن الظروف في الصومال المضطرب ساقت عنوة شبابا كثر إلى المجهول و كيف أن كثيرا من مقاتلي الحركة العنيفة هم ضحايا عنف البيئة في المقام الأول!

طلائع الجهاد في الصومال:

في الأبواب التالية يتناول الكتاب تاريخ نشوء الفكر الجهادي في الصومال و مراحل تطوره فيركز على البيئة الذي مهدت له في نهاية الستينات حين تضافرت العوامل لتغيير مسار تاريخ المجتمع الصومالي المعتدل في تدينه حيث كانت مقديشو التي عرفت وقتئذ بلؤلؤة المحيط الهندي تؤوي كاتدرائية جميلة من المعمار الإيطالى بجوار أحد أهم معالمها التاريخية المتمثلة في مسجد “أربع ركن” لكن الانقلاب العسكري الذي سمي “زورا” بالثورة الاشتراكية في عام 1969 م و فرض دكتاتورية تزدري بالدين و تقمع المجتمع و في تزامن مع سياسة الغرب بتوظيف الوهابية السعودية لكبح جماح الاتحاد السوفيتي في العالم الاسلامي ظهرت أولى توجهات الإسلام السياسي كثورة مضادة للاشتراكية المستبدّة!

تعتبر حركة “وحدة الشباب الإسلامي” في شمال الصومال و حركة “الأهل” في الجنوب أولى التيارات الإسلامية المنادية بتطبيق الشريعة و مع أن الحركتين كانتا ذواتي ميول اخواني و بعض منسوبها أشعرية متصوفة و وصفتا بالاعتدال إلا أنها تعرضت لاشقاقات و اختراقات و انبثقت منها معظم التيارات الرادكالية.

يركز الكتاب على شخصيات مهمة في الحركة الجهادية الصومالية منها إبراهيم حاجي جامع ميعاد المعروف بإبراهيم الأفغاني، تلميذ عبدالله العزام و مندوب أسامة بن لادن في الصومال، هو أول من أوصل و وزع أشرطة عن الجهاد الأفغاني في الصومال بداية التسعينات في محاولة لنشر فكرة الجهاد العالمي و جرّ شرق أفريقيا إلى أتون حرب عالمية سوف يكون عنوانها “الحرب على الإرهاب”.

ينحدر الأفغاني من مدينة هرجيساْ الواقعة شمالي البلاد و عاصمة جمهورية أرض الصومال الحالية، مولودا في نفس عام ولادة الدولة الصومالية المستقلة عام 1960 تفتح وعيه في نهاية السبعينانت في بيئة مناوئة للنظام و رافضة للوضع العام في الشمال فوجد الشاب إبراهيم المهذب الملتزم نفسه في حركة وحدة الشباب الإسلامي المعتدلة و فيها نهل حب التدين و التطلع لاقامة الدولة الإسلامية، و قبل أن يزلق الشمال في مواجهة مع النظام، سافر إبراهيم ميعاد إلى الولايات المتحدة طالبا و فيها عاش صدمة حضارية في بيئة اعتبرها كافرة يأبى التأقلم بها فكان ينغلق على نفسه و يتردد كثيرا على بعض المراكز الاسلامية و مساجدها.

التقى إبراهيم ميعاد في الولايات المتحدة وفق الروايات بمنظّر الجهاديين الفلسطيني الشيخ عبدالله العزام الذي دلّه على درب الجهاد الأفغاني وأنثنى على إبراهيم ميعاد مبشّرا إياه بأنه “الميعاد” المنتظر فكان إبراهيم الذي انتهت إقامته و يفقد مبررات تجديدها في الولايات المتحدة قد سافر إلى مصر و منها إلى باكستان ثم أفغانستان حيث القتى بأسامة بن لادن ليعود منها ملّقبا بـ الأفغاني و حاملا لواء الجهاد العالمي إلى الصومال الذي انهار في حرب أهلية بين فرقاء كثر منها عناصر قبلية حاربت النظام و أسقطته و تيارات اسلامية بعضها جهادية و خاضت في معارك ضد المليشيات القبلية بغرض فرض المشروع الاسلامي أحيانا و أحيانا بنية الدفاع عن وجودها! و بالرغم من أن تلك التيارات كانت عنيفة و ذات توجه جهادي و مستوردة منهجها من العقيدة الوهابية مثل حركة الإتحاد الإسلامي إلى أنها كانت محلية الفعل و السياسة داخل الصومال و قد تحرشت أحيانا باثيوبيا ربما باعتبارها محتلة لآراض صومالية إلى أن جاء المشروع الأخطر: مشروع إبراهيم الأفغاني بعولمة الجهاد و تجاوز الدولة القطرية.

تردد الأفغاني على أفغانستان و باكستان التي تعرّف فيها على أحمد عبدي جودني الذي كان طالبا مجتهدا و ملتزما من نفس مدينة الأفغاني، يدرس الاقتصاد و يحضر المراكز الاسلامية يتقرب عبرها من التوجه الجهادي في أفغانستان فصارا صديقي درب، و حين عادا إلى مسقط رأسهما وجداها تنعم باستقرار نسبي و حكومة قامت على مصالحة العشائر تسيطر على الوضع، كما وجدا مقاتلي الاسلاميين قد وضعوا السلاح و انخرطوا في المجتمع ! لم تكن بيئة ملائمة لزرع بذور الجهاد و قد فشلت بعض محاولاتهما فكان لا بدّ لهما من التريث لفترة لم تطل كثير إذ في بداية الألفية الثالثة خططا لعملية نوعية في الجانب الإثيوبي من الحدود فاستولوا على أموال من تجار مادة القات المنبهة قدرت بمليون دولار، ربما باعتبارها غنيمة من إثيوبيا و أرباح مخدرات، فهربا بها إلى مقديشو غير المستقرة و التقيا هناك بزملاء و أصحاب أجندات مماثلة لكنهم قلة فاستثمروا تلك الأموال للتجنيد و انشاء معسكرات للتدريب و تكوين علاقات و شبكات دعم، من بين معسكرات التدريب معسكر صلاح الدين و معسكر خالد بن الوليد الذين خرّجا في الصومال جهاديين من طراز الطالبان بعيدا عن نظر العالم و باهتمام أمريكي لم يتطور جيدا.

في تلك الفترة و في الفوضى المرهقة لجأ سكان العاصمة إلى انشاء محاكم أهلية بالتعاون مع زعماء الحرب و رجال الدين حيث يمنح المشائح سلطة فض النزاعات و التحكيم في الخصومات وفق الشريعة الاسلامية ، بعض هذه المحاكم الأهلية سيطر عليها الجهاديون المحليون دون اثارة حفيظة المجتمع لكن معظم المحاكم كانت تحت سلطة معتدلين و لم يكن بامكان كثير من السكان تحديد من هو جهادي فعلا و معنى مفردة “جهادي” على الرغم من ملاحظتهم لشباب متحمس في التدين و ظاهرة تبدؤ في التشكل و قد عرف هؤلاء الشباب شعبيا باسم “الشباب” لشبابة أعمارهم!

كانت الولايات المتحدة التى انسحبت من الصومال في بداية التسعينات و قد تجرعت مرارة الهزيمة فتعاملت فيما بعد مع الأزمة الصومالية بما عرف بساسة الاحتواء تدرك جيدا أن مناخا جهاديا يتنامى في مقديشو و أن مطلوبين لديها يلوذون بها منهم مدبروا تفجيرات سفارتيها في نيروبي و تنزانيا فنشرت عملاء الـ سي أي أيه و متعاونين محليين في المنطقة و بدأت ما أطلق عليه بمعركة “القطة و الفأر” بين عملاء الـ سي أي أيه و أمراء الحرب من جهة و بين أفراد الجهاديين، و بعد فترة من الكرّ و الفرّ لاحظت الولايات المتحدة أن شوكة الجهاديين تقوى باستمرار، في الواقع كان أمراء الحرب فاشلين في تحديد المستهدف الحقيقي من العملية الأمريكية في تعاونهم معها فصار كل متدين فريسة لهم مما أكسب الإسلاميين تعاطفا شعبيا و وحّد صف الاسلاميين بغض النظر عن درجة تطرفهم أو اعتدالهم، حينها جمع عملاء الاستخبارات المركزية زعماء الحرب و أوعزوا لتوحيد قوتهم و شن حرب شاملة على الجهاديين في عملية أطلق عليها “محاربة الارهاب و إعادة الاستقرار” و في وجهها اتحدت المحاكم الأهلية و انخرط فيها الجهاديون بمئات من المتدربين المهرة في أول معركة لهم وجها لوجه مع الولايات المتحدة فاكتسبوا المعركة و سيطر ائتلاف هلامي عرف بالمحاكم الاسلامية على كامل العاصمة كأول قوة أحكمت قبضتها على المدينة لأكثر من عقد ثم توسعت المحاكم الاسلامية على كامل جنوب و وسط البلاد باستثناء مدينة بيدو التي تمركزت فيها حكومة لا تملك سوى شرعية دولية و سند إثيوبي مجاور.

التمكين و التميز:

لعلّ الولايات المتحدة و قلّة من المتابعين كانوا يعرفون أن المحاكم الإسلامية تضم عناصر خطرة و أن قوتها الضاربة لست سوى كتلة موازية من الجهاديين العالميين فاتهمت منذ البدء، و في لحظة ابتهاج و احتفال الصوماليين بالاستقرار، بأن الكيان الجديد عبارة عن إرهابيين يضم قلة من المعتدلين و حاولت استمالة بعضهم كرئيس الكيان الشيخ شريف شيخ أحمد لكن الصوماليين ما كانوا ليصدقوا الرواية الأمريكية “الاستعمارية” بنظرهم فاحتشد دعمهم وراء الكيان الجديد الذي هبّ لنصرتهم و بهم انتصر، و في خضم اللحظة الوطنية كانت الكتلة الموازية تخطط بمفرها داخل الأئتلاف و تتمكن في مفاصله فاحتل الامانة العامة في جهازه التنفيذي أحمد عبدي جودنى و تقلد منصب أمين الدفاع مختار روبو “أبو منصور” و هو بدوره ممن تدرب في أفغانستان و في رأس مجلس شورى الإتحاد صار حسن طاهر أويس الجهادي البارز رغم أن الجهاديين الجدد لا يثقون به لكن أقرب إليهم من زعيم الائتلاف الشيخ شريف الذي لم ينتم في حياته لجماعة جهادية رادكالية!

و في أحد الليالي انعقد اجتماع سري لممثلي معسكرات الجهاديين و اتفقوا على تحديد أجندتهم بعيدا على المحاكم و رموزها في لحظة توّجت المفاصلة في الائتلاف فأطلقوا على كتلتهم رسميا بـ”حركة الشباب المجاهدين” و اختاروا أميرها الأول، إسماعيل عرّالي المنحدر من الشمال، و نائبا له هو أحمد محمد إسلان – مدوبي – ينحدر من أقصى جنوب البلاد و هو رئيس اقليم جوبلاند حاليا، و بهذا أعلنت حركة الشباب نفسها رسميا كيانا ذا أجندة يتجاوز الصومال داخل ائتلاف المحاكم الاسلامية، و في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تتردد في مواجهة مباشرة مع اتحاد المحاكم و تأمل الانشقاق المحتوم و تساعد على ذلك من خلال التودد للمعتدلين و مهاجمة المتطرفين اعلاميا كانت إثيوبيا أكثر توجسا و جرأة لاتخاذ موقف صارم، و في المقابل، إلى جانب سياسىة المهادنة للمحاكم الإسلامية، كانت حركة الشباب أكثر جرأة و استعدادا للمواجهة المفتوحة مع “الصليبيين” و لعلّهم أيضا ينظرون إلى هكذا معركة كفاصلة بينهم و بين الملتفين حول الجسم الهلامي للمحاكم الاسلامية “ليمحص الله الذين آمنوا و يمحق الكافرين” فكانت أن غلبت العدوانية الإثيوبية و التوق الجهادي لحركة الشباب على التردد الامريكي و دبلوماسية المحاكم و اجتاحت إثيوبيا الصومال في نهاية 2006 بحجة انقاذ الحكومة الصومالية الشرعية و بدعم من الولايات المتحدة التي تخلت عن سياسة التفرقة و اتهمت عشية الغزو الإثيوبي ائتلاف المحاكم بأنه تنظيم إرهابي من قاعدته لأعلى هرمه.

قبل اعلان إثيوبيا عن نيتها اجتياح الصومال كانت قد نشرت وحدات من جيشها على تخوم بيدو، مركز الحكومة الانتقالية، فاستبقت حركة الشباب الموقف الإثيوبي و حددت مهلة أسبوع لسحب قواتها و بدلا من الانسحاب عززت إثيوبيا وجودها العسكري و استعدت للحرب التى اندلعت خلال الأسبوع، و في أثناء المعركة واجه المقاتلون الإسلاميون جيشا نظاميا و مدججا بسلاح ثقيل على عكس المليشيات الصومالية التي هزموها بسهولة و لكن ظهرت التباين الواضح في المقاتلين أنفسهم فحركة الشباب التى تضم خريجي معسكرات التدريب القاسي أبلت في الحرب مهارة و مقاومة عنيفة بينما انهار مقاتلوا المحاكم الأقل تدريبا و استماتة و في النهاية خسر المقاتلون جلّ رصيدهم القتالي و انهكت طاقتهم فانسحبوا و انتهى وجود اتحاد المحاكم الاسلامية و عادت البلاد إلى الفوضى مع وجود جيش أجنبي محتلّ و تننامي شعور قومي صومالي ضدّ ما ينظر إلىه كاحتلال إثيوبي.

فرصة مواتية:

عندما انهارت المحاكم الاسلامية و فرّ فلول المقاتلين و قادتهم إلى الأدغال الاستوائية في أقصى الجنوب كان إبراهيم الأفغاني لم يغادر مقديشو! يرتب أفكاره لإطلاق ما اعتبره الجهاد الحقيقي فكما يروي أحد مرؤوسيه أبلغه الأفغاني أمرا باطلاق أول عملية ضد القوات الإثيوبية في العاصمة بعبارة “أطلق عليهم شيئا ما فالجهاد الحقيقي بدأ من الآن” فبدأت من تلك الليلة تحرشات تحولت فيما بعد إلى معركة كرّ و فرّ و عمليات نوعية تقضّ مضاجع الجنود الإثيوبيين و الحكومة الصومالية.

لم يرتّب الأفغاني عملياته الميدانية فحسب و إنما صفوف التنظيم أيضا فتخلّص الجهاديون من عبئ تحالف المعتدلين و أصحاب الرؤى القطرية و رفضت حركة الشباب الانضام إلى التحالف من أجل إعادة التحرير الذي تمركز في أرتيريا برئاسة الشيخ شريف زعيم المحاكم الاسلامية، بل إن الأفغاني و أحمد جودني أطاحا بأمير الحركة السابق إسماعيل عرّالى الذي اعتقلته الاستخبارات الأمريكية في جيبوتي و هو في طريقه إلى أسمرة بنية الإنضمام للتحالف فاقتادته إلى غوانتمانو باي ليفرج عنه بعد سنوات، و اختير أحمد عبدي جودني الذي عرف فيما بعد بـ مختار إبي الزبير أميرا للحركة و بهذا صارت حركة الشباب ناديا خالصا للجهاديين الجدد ذوي الامتداد العالمي و معظم رموزها قاتلوا أو تدربوا في أفغانستان إبتداء من المنظر و المخضرم إبراهيم الأفغاني مرور بالأمير جودني و مختار روبو و آدم عيرو و غيرهم.

صارت حركة الشباب القوى الأكثر تنظيما و جدية و اقتدارا في منازلة الإثيوبيين و الحكومة الصومالية الموالية لهم و لذلك أصبحت الحركة قبلة لشباب صوماليين كثر حرّكتهم المشاعر الوطنية، كما دشنت حملة بين الصوماليين في الشتات لدعم الجهاد ماليا و التجنيد كما احتضنت جهاديين أجانب من كل بقاع الأرض، و في نهاية 2007 و سنة 2008 كانت الجركة الجهادية العنيفة تسيطر على معظم جنوب و وسط البلاد و تقيم فيها دولتها التي تطبق الشريعة الإسلامية بنموذجها الأكثر قساوة.

زعيم الإسلاميين في خطر محدق :

في مصالحة رعتها جيبوتي و بدعم اقليمي و دولي أبرم اتفاق بين التحالف من أجل إعادة التحرير و الحكومة الانتقالية انسحبت بموجبه إثيوبيا المنهكة من الصومال و انتخب رئيسا للبلاد شريف شيخ أحمد زعم اتحاد المحاكم الاسلامية الذي ضمّ يوما حركة الشباب في ائتلافه، و فور انتخابه دعا كل الفرقاء إلى الحوار و وقف الحرب فكان الردّ من الشباب بأنه من “المرتدّين” العملاء كما انتظم كثير من الجهاديين “الوسط”- معظهم من الجهاديين القدامى من ذوي الجهاد المحلي- في تكتل سمي بالحزب الإسلامي برئاسة الدكتور عمر إيمان أبو بكر الذي سرعان ما انزاح عنه لصالح حسن طاهر أويس.

لم يرث شريف من سلفه سوى المقر الرئاسي التى تحرسة بعثة الاتحاد الأفريقي للصومال و التي منحت فقط صلاحية حق الدفاع عن النفس و حماية المقرات الرئيسية أما باقى العاصمة فقد سقط في أيدي حركة الشباب و مقاتلين من الحزب الاسلامي بينما انحاز قلة من مقاتلي المقاومة الاسلامية إلى جانب الحكومة، و مع أن شريف شيخ أحمد حاول كثيرا المراوغة و المهادنة مع الجهاديين و أعلن عن دعوته للبرلمان إلى إعتماد الشريعة الاسلامية في قوانين البلد إلى أنه تعرض لهجوم عنيف من ثنائي الشباب و الحزب الاسلامي و حاصروا مقر اقامته حتى كاد يطاح به و خططت الولايات المتحدة فعلا التدابير البديلة بعد سقوطه لولا حماية القوات الإفريقية التي استماتت في الدفاع عن نفسها أولا و عن المجمع الرئاسي لكن حربا شرسة و عمليات انتحارية أودت بحياة وزراء كثر من حكومته و برلمانيين و عدد لا يحصى من المديين استمرت طيلة فترة حكمه.

تصدعات بنية الجهاديين.

استمرت الولايات المتحدة في اصطياد قادة الحركة الأكثر خطورة في توصيفها فاغتالت آدم عيرو بصاروح هوماتوك مما شكل ضربة قوية للحركة لكنها لم تضعف بعد، كما استهدفت رموزا أخرين مثل صالح نبهان الكيني و كذلك سعت لتجفيف مصادر تمويلها في الخارج حيث ساقت هيئات إنفاذ القانون الأمريكية كثيرا من الصوماليين فيها بتهمة دعم الإرهاب.

و في الداخل عانت الحركة عدة صعاب سببها الرئيسي القبضة الحديدية للأمير جودى إلّذى طبق سياسة صارمة تصبّ باعتقاده في رؤية حلفاء الحركة في وراء البحار في إطار الجهاد العالمي فالرجل لم يسمح بوجود رأي مختلف في الساحة، حتى التحالف التكتيكي مع الحزب الإسلامي لم يدم طويلا فجرّدت الحركة الحزب كل عناصر قوته فابتلعته في نهاية المطاف لكن عدم مرونة الأمير اكتوى بها رفقاؤه فالحرب التي شنها على الحكومة في رمضان 2010 تحت شعار “نهاية المعتدين” كبّدت الحركة خسائر هائلة في صفوف المقاتلين مما حدا مختار روبو، الذي انتمى إلى قبيلته معظم ضحايا تلك المعركة، للاعتراض على سياسة الأمير فانسحب بكتائبه من العاصمة، و بحسب روايات اعتمدها الكتاب كان الهدف الرئيسي من تلك المعركة اضعاف سلطة نائب الأمير مختار روبو من خلال توريط قوته البشرية في معركة انتحارية ، و لوحظ أثناء المعركة عناصر من الأمنيات الموالية لأحمد جودني و هي تجهز على الجرحى من مقاتليه، و في حين برّر البعض تلك الفعلة بالخشية الأمنية من وقوع الجرحى في أسر القوات الحكومية و الأفريقية و استحصال معلومات منهم أدرك آخرون، منهم مختار روبو، أن الهدف كان تصفية حسابات و مؤامرة جناح على آخر داخل الحركة في إطار الصراع على النفوذ.

في محاولة لرأب الصدع اشترط مختار روبو استقالة جودنى و رفع الحظر المفروض على منظمات الاغاثة في مناطق الجفاف الذي ضرب البلاد و راح ضحيته ربع مليون شحص لكن جودني رفض تلك الشروط و حسب الكتاب اتهم إبراهيم الأفغاني حنيها مختار روبو بأنه رجل أعمته العصبية القبلية ليس الجهاد بحاجة إليه! و لكن بجهود بعض الأطراف اقتنع روبو بإعادة مقاتليه إلى ثكناتهم في العاصمة و اخفاء الخلاف في تلك المرحلة الحساسة بما بدا ارجاء إلى حين آخر الذي أتى بسرعة و تصدع أكبر إذ واجه الأمير هذه المرة معارضة قوية من داخل معسكره و من بين من انتقده في سياساته صديقه المخضرم إبراهيم الأفغاني و رئيس مجلس شورى الحركة معلم برهان و غيرهم الذين اتهموه بالانحراف عن خط الشورى و الفشل في التخطيط و تكبيد المجاهدين في خسائر فادحة ، و في جلسة كانت تشبه استجوابا له و قرأ فيها الأفغاني قائمة الإتهامات الموجة لقيادته طُلب منه الاستقالة كما وافقت الجلسة على مقترحات مهمة منها وقف الاغتيالات العشوائية و وقف تجنيد الأطفال.

وافق جودني على الطرح و طلب مهلة شهور للتصحيح و الاستعداد لنقل السلطة لكنه استغلّ المهلة لخلط الأوراق و تشكيل حلف في صفه، و لارباك الجميع أصدر أمرا أحاديا غريبا بسحب المقاتلين من العاصمة فشتّت منتقديه و أعاد تقوية خلية الأمنيات “كاسري الرؤوس” لاحكام مزيد من قبضته الحديدية و اتهم منتقديه باثارة البلبلة و التفرقة داخل “المجاهدين” و عرقلة الجهاد.

فقدت الحركة أيضا السيطرة على مدينة كسمايو التى كانت تمثل مصدرا مهما للدخل من خلال تصدير الفحم و فرض الضرائب على البضائع، فقدتها لصالح قوات كينية تدعم مليشات صومالية مما زاد الضغط على كاهل الحركة، و بتزايد الضغط و استبداد الأمير ازدادت الخلافات الداخلية، و إلى جانب الاغتيالات التى تنفذها الولايات المتحدة تمت تصفيات داخلية لقيادات كبيرة من الحركة بتهمة “البغي” أو التمرد فقتلت أمنيات جودنى رموزا اختلفوا معه الرأي كما قتل آخرون في ظروف غامضة مثل الجزر القمري الفضول عبدالله الذي قتلته قوات صومالية في نقطة تفتيش أتاها بالخطأ يقال بأنه كان يسير بتعليمات من قادة الحركة!

بجانب الصراع على النفوذ داخل التنظيم كان هناك صراع على النفوذ في مشروع الجهاد العالمي و تنظيم القاعدة، و في إطار الصومال كان إبراهيم الأفغاني صاحب أوسع علاقات مع زعماء الجهاديين الدوليين فهو الوحيد الذي التلقى عبدالله عزام وهو أيضا مندوب بن لادن الأول في الصومال، هذا التأثير الكبير و العلاقات الواسعة للأفغاني لم ترق للأمير الطموح جودني و خاصة في وقت صار الأفغاني من منتقديه فحاول مرارا دمج الحركة رسميا في التنظيم الدولي و منح بيعته كمثل لفرع القاعدة في الصومال لأسامة بن لادن لكن الأخير تلكأ في قبول الطرح و فضّل أن تكون العلاقة غير رسمية و الانتماء غير عضوي لاعطاء مزيد من المرونة للعمل الميداني، لعلّ الأفغاني القريب من بن لادن كان يرى نفس الموقف.

بعد اغتيال أسامة بن لادن في باكستان عام 2011 ترجحت كفة جودني الذي بايع بقرار استبدادي خليفة بن لادن و لم يتردد أيمن الظواهري في قبول تلك البيعة في شريط فيديو نشرتها معظم شاشات التلفزة في العالم عام 2012 بعد عام واحد من رحيل بن لادن و في تلك الفترة ازدادت الهوة بين جودني و الأفغاني الذي جُرّد من جميع مناصبه و امتيازاته كنائب ثاني لجودني و أب روحي للمشروع برمته و لكنه كان ينشغل في تطوير الايدولجية الجهادية بمعزل عن جودني فيؤسس لأكادمية تخرّج جهاديين و يسجل لحلقات فكرية في نقد الأنظمة الوضعية و التنظير للشريعة الإسلامية، ربما أراد تكملة مشروعه الجهادي بتركة فكرية تبقيه على الديمومة بعد رحيله و يستنير بها أجيال قادمة درب الجهاد حسب تصوره!

في مدينة براوى الساحلية الجميلة في محافظة الشبيلى السفلى كان يقضي الأفغاني و غيره من منتقدي جودني أيامهم حين داهمت المدينة عناصر من الأمنيات فأقامت نقاط تفتيش فيها دون أن يعي السكان ما يجري، و بعد صلاة المغرب تم ايقاف الأفغاني بين المسجد و منزله من قبل شخصين عرف أحدهما فسلّم عليه و حادثه قليلا و أثناء المحادثة أطلق الآخر رصاصة في رأسه فأرداه قتيلا و أطلق عليه ثانية و هو يشمت عليه بمناداته “منافق!” و استولوا على ممتلكاته بما فيها مشروعه الفكري الذي كان قيد الإعداد فانتهى الأفغاني بكل ما كان يمثله من فكر و تدبير و خطورة على أيدي منتوجه الجهادي على مدى ربع قرن!

و مع أن الحركة نعت أسرته و زارها واليها في المحافظة دون ابداء سبب اغتياله و من هم وراءه و تعهد بالرعاية لها إلّا الحركة أعلنت عن مقتل شخصيات كانت تثير الفتنة و كان الهدف اعتقالهم ثم محاكمتهم لكنهم قاوموا فقتلوا! بالطبع لم يكون الأفغاني وحده من اغتيل في تلك الليلة و إنما أعدمت الأمنيات أيضا رئيس مجلس شورى الحركة معلم برهان و غيره كما هرب حسن طاهر أويس الذي كان في قائمة المستهدفين!

بعد عام واحد من إغتياله للأفغاني و غيره من منتقديه و تحييد آخرين في الحركة فانفرد بكل شيء في الحركة المتطرفة التقطت الولايات المتحدة مكالمة هاتفية اعتقدت أنها ذات صلة بـ جودني فحددت موقعا بدقة فإذا هي منقطة غير مأهولة يصحبه عدد من حراسه الشحصيين فاستهدفته بصاروخ موجه أنهى حياة الأمير الحديدي الذي اجتمعت فيه كل التناقضات من حزم و استبداد كما كان متواضع تقيا و ورعا!

مستقبل الشباب :

لا تزال الحركة تعيش تبعات التصدعات الداخلية و فقدت كثيرا من مساحتها الجغرافية كما اكتسبت سعمة سيئة في مخيلة المجتمع الصومالي فلا تخظى بقاعدة شعبية تذكر و لايحظى أميرها الحالي بزعامة ذات الكاريزما التي تمتع بها جودنى كما لا تملك خلفا لعبقرية الأفغاني، بالاضافة إلى تداعي دول المنطقة و الإدارات المحلية لمحاربتها إلى جانب الولايات المتحدة و لكن رغم ذلك لا تزال تمثل خطرا ليس على الصومال فحسب و إنما على المنطقة برمتها من خلال تنفيذ عمليات مميتة لا تستطيع تحديد هدفها بدقة فتركز على إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر كما استطاعت، و لا تزال، تنفيذ هجماتها خارج حدود الصومال، و مع أن الحركة تضعضعت قوتها ففي المقابل توجد حكومة ضعيفة سندها الرئيسي قوات حفظ السلام الأفريقية مما يعنى أنه في حال سحب تلك القوات يكون بامكان حركة الشباب استعادة بعض قوتها و اجتياح مدن بما لديها من عتاد و بقية من المقاتلين الشرسين!

الكتاب : من داخل الشباب

التاريخ السري لأقوى حليف للقاعدة.

المؤلفون: هارون معروف و دان جوزيف.

اللغة : الانجليزية.

تاريخ الاصدار: 2018.

عدد الصفحات: 323.

المطبعة: جامعة انديانا.

Leave a comment